الضوابط المنهجية لاتباع الرسول صلى الله عليه وسلم

غيرمعروف
1/24
صفحة ۱

الضوابط المنهجية
لاتباع الرسول - صلى الله عليه وسلم -
---
أ.د. صلاح سلطان
المستشار الشرعي للمجلس الأعلى للشئون الإسلامية
في مملكة البحرين
www.salahsoltan.com
الحمد لله الذي بعث لنا محمدا رسولا وداعيا إلى الله بإذنه وسراجا منيرا ، والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه ومن اتبع منهاجه إلى يوم الدين .
..، وبعد
فهذا هو العدد العاشر من "سلسلة قضايا اجتماعية وإسلامية "، حول منهجية اتباع النبي - صلى الله عليه وسلم - يقدم فيه لنا المستشار الدكتور صلاح الدين سلطان أساس الاتباع ومنهجيته التي تجعل لسنة النبي - صلى الله عليه وسلم - أثرا متجددا في كل زمان ومكان يجمع بين الوسائل والمقاصد، والشكل والمضمون، الأصالة والمعاصرة.
والله أدعو أن يجعل فيما كتب القبول الحسن عند الله - عز وجل -، والأثر العميق عند المسلمين، وأن يحشرنا في زمرة سيدنا وحبيبنا محمد - صلى الله عليه وسلم - يوم القيامة.
والله ولي التوفيق.
عبدالله بن خالد آل خليفة
رئيس المجلس الأعلى للشئون الإسلامية
ربيع أول ۱٤۲۹هـ
الحمد لله والصلاة والسلام على خير خلق الله، أول العابدين، وآخر النبيين، وسيد الخلق أجمعين وصاحب الشفاعة، والكوثر، والمقام المحمود، وعلى آله وصحبه ومن تبعهم إلى يوم الدين، وبعد،
ففي هذه الرسالة المختصرة أرجو أن أبيّن لإخواني وأخواتي أحباب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - منهجية اتباعه والاقتداء بهديه، أملا في نيل شفاعته والفوز بصحبته في الفردوس الأعلى من الجنة بعد الفوز برحمته سبحانه وتعالى.

صفحة ۲

في هذه الصفحات أبيّن منهجية الاتباع في الوسائل والمقاصد والغايات، في العبادات والمعاملات، حتى لا نفرط في هدي فيه أجر، ولا نغالي في أمر فيه سعة؛ فنخالف المقاصد الشرعية التي جاءت بها الآيات القرآنية والسنة النبوية، ولا نغرق في المقاصد والمصالح ونهمل الوسائل التي صحت بها الأدلة النقلية.
ولعلي أيضا أرجو أن يلتمس كلٌّ العذر لأخيه مابين متبع في الوسائل وآخر في المقاصد ، ونرجو أن يكون الجميع كما قال البوصيري في بردته:
وكلهم من رسول الله ملتمس غرفاً من البحر أو رشفاً من الدِّيَم
وبهذا نساهم في جمع قلوب اشتركت في حب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - واختلفت في منهجية الاتباع له - صلى الله عليه وسلم -. وسوف أقدم - إن شاء الله- بين يدي هذه منهجية الاتباع أساس الاتباع؛ حتى تبنى المنهجية على عقيدة إيمانية وليس فقط قسمة عقلية .
وأدعو الله - عز وجل - أن يجعل لنا جميعا ذلك القبول الحسن وصحبة النبي - صلى الله عليه وسلم - وآل بيته الكرام وأصحابه الأعلام وأتباعه في كل زمان أو مكان من المسلمين، إنه سبحانه ذو الفضل والجلال والإكرام.

والله ولي التوفيق.
أ. د.صلاح الدين سلطان
ربيع أول ۱٤۲۹هـ
قد يرضخ الإنسان لقانون خشية عقوباته، وقد يطيع حاكما أو رئيسا أو مديرا خشية نقمته، لكن اتباع النبي - صلى الله عليه وسلم - أمر فريد؛ حيث يعتمد على ثوابت ورواسخ إيمانية، تجمع بين عمق الإيمان وقوة القناعة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - حقيق وجدير بأن يُتبع كما قال - سبحانه وتعالى - : ﴿ َقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً [الأحزاب : ۲۱].
ومن هذه الأسس في الاتباع ما يلي:

أولا:
أنه أحب خلق الله إلى الله، لقوله - سبحانه وتعالى - : ﴿ قُلْ إِن كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعَابِدِينَ [الزخرف : ۸۱].

صفحة ۳

وقد رأى الإمام علي - رضي الله عنه - أن هذه أفضل آية امتدح ربنا - عز وجل - فيها نبيه، وتفسيري لذلك أن غاية خلق الجن والإنس هي العبادة لقوله - سبحانه وتعالى - : ﴿ وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ [الذاريات : ٥٦]، فإذا كان النبي - صلى الله عليه وسلم - وصل إلى الذروة والقمة في العبادة، فهو أفضل الخلق أجمعين عند ربنا جل وعلا. وحسن الاتباع هو الدليل العملي على حب الله - عز وجل - وحب النبي - صلى الله عليه وسلم - لقوله - عز وجل -: ﴿ قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ [آل عمران : من الآية ۳۱].
ثانيا:
أنه أكمل خلق الله - عز وجل - أخلاقا وأرفعهم قدرا، وقد وصفه الله - سبحانه وتعالى - في قرآنه بقوله: ﴿ وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ [القلم : ٤]، فعلا النبي - صلى الله عليه وسلم - على الأخلاق حتى صارت تُستمنح منه، وتستقى من فعاله ، وتقتدى من تصرفاته، وصار معيارا للمكارم الأخلاقية.
كما قال الشاعر أحمد شوقي:
زانتك في الخلق العظيم شمائل يُغرى بهن ويُولع الكرماء
وإذا كان الإنسان مولعاً بحب صديق أو زوجة أو أستاذ أو تلميذ، فعند السراء أو الضراء لا يفوت الإنسان ثلمة في خلق، أو فجوة في أدب، فيعالجها الإنسان بأن فيّ نقصا كما في غيري، فيحتمل الزوجان والأصدقاء والشركاء والآباء والأبناء من هذه السفاسف ما يحفظ للود البقاء.

أما رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فكلما أمعَنت في سيرته، وأكَثرت من معرفة أخلاقه في العسر واليسر، والمرض والصحة، والسفر والحضر، فلن تجد إلا الكمال الأخلاقي في كل ما دقَّ وجلَّ.

صفحة ٤

ثالثا: أنه صاحب المعجزات الكبرى، وأهمها القرآن الكريم وهو المعجزة الإيمانية العلمية الأخلاقية التشريعية اللغوية البلاغية التي أعجزت الجن والإنس أن يأتوا بسورة مثله.
ومن معجزاته أيضا: انشقاق القمر ونطق الحجر والشجر بين يديه، وكثرة الطعام والشراب بين أصابعه، والإسراء والمعراج، ﴿ ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى (۸ فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى (۹) } [النجم]، ونزول المطر بعد قحط لما دعا ربه، وخروجه بين المتربصين لقتله فضرب التراب في وجوههم وخرج سليماً من بينهم، ومسح على عين علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - لما اشتكى منها فبرأت، ورد عين قتادة - رضي الله عنه - عندما سقطت على وجنتيه فصارت أحدّ من العين الصحيحة، ومسح على رجل أبي بكر - رضي الله عنه - لما لدغته حية في غار ثور فبرأت، ومسح على رجل عبدالله بن عتيك الأنصاري - رضي الله عنه - لما أصيب بها عند قتله رافع بن أبي الحقيق اليهودي فما اشتكى منها حتى مات، ودعا لأنس بن مالك - رضي الله عنه - بكثرة المال والولد وطول العمر، فعاش نحو ۱۰۰ عام وكثر نسله، وكان له نخل يثمر في كل سنة مرتين، ودعا على مجرمي قريش، وأشار إلى مصارعهم قبل غزوة بدر، فقتلوا في المواضع نفسها.

هذه بعض معجزاته - صلى الله عليه وسلم - التي تضاعف الحب القلبي، واليقين العقلي أن الرسول النبي - صلى الله عليه وسلم - جدير بحسن الاتباع والاقتداء بهديه، وفي واقعنا إذا رأى الناس من عالِم اختراعا، أو من رئيس إنجازا، أو من طالب تفوقا، أو من لاعب تميزا، أو من فنان مهارة، فإنهم يهيمون به، ويكثرون ذكره، ويقلدونه في كل شيء: في كلامه، ومشيته، وتسريحة شعره، وفي شكل لُباسه، وفي نوع ساعته، ونظارته، وحزامه، بل وحذائه!

صفحة ٥

أفلا يكون رسولنا - صلى الله عليه وسلم - الذي جمع هذه المعجزات الغفيرة المتنوعة الخارقة التي تستحيل على أحد أن يكررها، أفلا يكون جديرا بغاية الحب وحسن الاتباع لهديه - صلى الله عليه وسلم -؟!
رابعا:
أنه شديد الحب لأمته عظيم الشوق لرؤيتنا، لما روي عن أنس بن مالك - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "وددت أني لقيت إخواني ، فقال أصحابه : أوليس نحن إخوانك ؟ قال : أنتم أصحابي ، و لكن إخواني الذين آمنوا بي و لم يروني"، (سلسلة الأحاديث الصحيحة للألباني، ص۲۸۸۸)، وقد انفرد - صلى الله عليه وسلم - بين الأنبياء في الدعوة المجابة، حيث تعجلوا في دعوتهم، لكنه - صلى الله عليه وسلم - - شغفا بنا، وحرصا علينا، وإنقاذا لنا- أجّل دعوته المستجابة شفاعة لنا يوم القيامة، ولما وجهت له أرقى التحية ليلة المعراج في الملأ الأعلى: "السلامُ عليكَ أيها النبيُّ رحمة والله وبركاته" كان جوابه - صلى الله عليه وسلم - رائعا حيث عطفنا عليه فقال: "السلامَ علينا وعلى عبادِ اللهِ الصالحين".
أفننساه في الملأ الأدنى، ذلك لعمري في القياس فظيع!
وأقول لإخواني وأخواتي إذا كان فينا قلب يشعر أو ينبض أو عقل يفكر فنجد هذا المستوى من الحب العميق من رسول الله لنا، لا يسعنا إلا أن نبادله حبا بحب وشوقا بشوق، وإنا نشهدك يارب الأرباب أننا نحب نبينا محمدا - صلى الله عليه وسلم - ونشتاق إلى لقائه فاجمع بيننا وبينه كما آمنا به ولم نره، ولاتفرق بيننا وبينه حتى تدخلنا مدخله.
هناك ضوابط منهجية يلزم محبي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - جميعا أن يراعوها عند اتباع هديه والاقتداء بسنته، ومن هذه الضوابط والمناهج مايلي:
الضابط الأول:
التفرقة في الاتباع بين السنة القولية والفعلية والتركية والتقريرية

صفحة ٦

إذا كان الأصل العام هو وجوب اتباع النبي - صلى الله عليه وسلم - فإنه عند التفصيل هناك ما يقيد هذا الاطلاق ويخصص هذا العموم على النحو التالي:
أولا:
السنة القولية: وهي المرجع الأقوى في التشريع؛ لأن الأصل فيها وجوب الاتباع، وقد تنصرف عن الوجوب إلى الاستحباب أو الحِل بقرائن أخرى، ومن الشواهد على ذلك ما يلي:
ما رواه أحمد في مسنده عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لا صلاة لمن لا وضوء له، ولا وضوء لمن لم يذكر اسم الله عليه" (ج: ۳ ، ص: ۱٤٦). وقد اتفق العلماء أن نصف الحديث الأول ينصرف إلى الوجوب فتبطل صلاة غير المتوضأ، كما اتفق أكثرهم على أن التسمية مستحبة ويستحب الوضوء بغيرها إلا عند الزيدية فهي ركن، وهو حديث بلفظ واحد.

مارواه مسلم بسنده عن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - أنه - صلى الله عليه وسلم - قال: "يا أهل المدينة ! لا تأكلوا لحوم الأضاحي فوق ثلاث . فشكوا إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن لهم عيالا وحشما وخدما . فقال - صلى الله عليه وسلم - : كلوا وأطعموا واحبسوا أو ادخروا" ( المسند الصحيح ، ص۱۹۷۳) لا يفيد الحديث وجوب ادخار لحوم الأضاحي أو الندب بل يشير إلى الإباحة فقط، حيث كان الحظر بسبب الفقراء الذي وفدوا إلى "منى" فنهاهم عن الادخار توسعة عليهم، ثم أباح الادخار.
ثانيا:
السنة الفعلية: وهي أقل في قوة التشريع من السنة القولية حيث إن فيها ما يلي:
ما فعله النبي - صلى الله عليه وسلم - وثبت أنه مختص به دون أمته ومن ذلك: الوصال في الصوم، ونكاحه أكثر من أربع زوجات، ووجوب قيامه الليل، .
. الخ، وهذا مما لايجوز اتباع النبي - صلى الله عليه وسلم - فيه.

صفحة ۷

ما وقع من أفعاله - صلى الله عليه وسلم - بحكم بشريته وجبلَّته من استحسانه - صلى الله عليه وسلم - مطعما أو مشربا أو مسكنا أو ملبسا أو مركبا أو لونا على آخر، فهذا ليس من التشريع في شيء ، ولذلك نجده - صلى الله عليه وسلم - يوسع على أمته في هذه الجوانب فنجده - صلى الله عليه وسلم - يقول فيما روى الإمام أحمد بسنده عن جد عمرو بن شعيب أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "كلوا، واشربوا، وتصدقوا، والبسوا، في غير مخيلة ولا سرف إن الله يحب أن ترى نعمته على عبده" (مسند الإمام أحمد، إسناده صحيح، ص ۱۰/۱۷۸ )، ولعل هذا هو السبب الذي جعل الصحابة والتابعين والمجاهدين ينطلقون في الأمصار فاتحين يؤسسون العقيدة والأخلاق والشريعة ولم يغيروا أعراف وعادات الشعوب في ملابسهم ومآكلهم ومشاربهم ومراكبهم، ووسعت هذه المنهجية العالم كله في استيعاب الأعراف التي لا تخالف أصول العقائد والأخلاق والشريعة، ووسع المسلمون الأعراف المحلية، وعلى سبيل المثال لا الحصر بقي مسلمو شرق آسيا قديما وحديثا قبل الإسلام وبعده يأكلون الطعام الحار، وبقي أهل المغرب يأكلون "الكسكس"، وأهل الشام يأكلون "المقلوبة" فلم يعدلوها حتى الآن!، وأهل مصر يأكلون "الكشري والمحشي"، وظل أهل الجزيرة حتى اليوم على أعرافهم في أكل "الكبسات المفعمة باللحم أو السمك"، فلم ينه الفاتحون قوما عن عوائدهم في الطعام ولم يفرضوا عليهم أعرافهم كما تفعل الأنظمة الغربية معا دائما.

ويضاف إلى ذلك أيضا شكل الحجاب الإسلامي وملابس الرجال فلم نعلم تاريخيا أنه كان ذا صبغة واحدة أو لون واحد حتى في كل البلاد الإسلامية حتى في أقوى عصور الخلافة الإسلامية.

صفحة ۸

الأفعال التعبدية: التي يقصد بها القربة إلى الله - عز وجل - وهذه يجب أو يستحب فيها الاتباع، كما روى التبريزي بسنده في مشكاة المصابيح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - : "صلُّوا كما رأَيتُموني أُصَلّي"، (ج: ۲ ، ص: ۳۷٥.) ، وروى السيوطي بسنده في جامع المسانيد والمراسيل عن النبي - صلى الله عليه وسلم - : "يَا أَيُّهَا النَّاسُ خُذُوا عَني مَنَاسِكَكُمْ، فَإني لاَ أَدْرِي لَعَلي لاَ أَحُجُّ بَعْدَ عَامِي هاذَا"، (ج: ۹ ، ص: ۱۳۲)، وفي فعله وهديه من الواجبات والمندوبات، فالسجود ركن والدعاء فيه مستحب، وكلاهما فعله النبي - صلى الله عليه وسلم -.
ثالثا:
السنة التركية: وهي أضعف مما قبلها في وجوب الاتباع، وتحتاج إلى قرينة تفيد هل تركها - صلى الله عليه وسلم - للتشريع أم للطبع أم لشيء آخر؟ ومن ذلك ما يلي:
ما تركه - صلى الله عليه وسلم - جبلة، ومنه ما رواه البخاري بسنده في صحيحه عن خالدِ بن الوليد - رضي الله عنه - قال: "أُتي النبي - صلى الله عليه وسلم - بضَبٍ مَشْويٍ، فأهوَى إليهِ ليأكلَ، فقيلَ له: إنهً ضَبّ، فأمسكَ يدَه. فقال خالدٌ: أحرامٌ هوَ؟ قال: لا، ولكنَّهُ لا يكون بأرضِ قَومي، فأجِدُني أعافُه. فأكلَ خالدٌ ورسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - يَنظر" ، (ج: ۱۰ ، ص: ٦۸۰ ). وكان يحب أن يأكل من الشاة ذراعها ويترك بقيتها، ويستعذب ماء بئر ويترك غيره. ولم يفهم أصحابه - صلى الله عليه وسلم - أن في هذه التروك تشريعا لأنها تتعلق بالذوق الخاص بكل إنسان.

صفحة ۹

ما تركه النبي - صلى الله عليه وسلم - تشريعا لأمته، ومنه ترك مصافحة النساء في كل بيعة، بل في حياته كلها، روى البخاري في صحيحه بسنده عن السيدة عائشة رضي اللَّه عنها قالت: (كان النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - يبايع النساء بالكلام بهذه الآية: ﴿ لا يشركن باللَّه شيئاً [الممتحنة : ۱۲] ، قالت: وما مسَّتْ يدُ رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - يدَ امرأةٍ إلا امرأةً يملكها) (ج: ۱٥ ، ص: ۱۱٦) ، فهذا الترك تشريع، حيث امتنع عن المصافحة وهو الأقوى في امتلاكه لإربه مما يوجب اتباعه فيه.
ترك النبي - صلى الله عليه وسلم - الشيء مخافة أن يفرض على أمته، ومنه ما رواه مسلم بسنده في صحيحه عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها ، أَنَّ رَسُولَ اللّهِ - صلى الله عليه وسلم - صَلَّى فِي الْمَسْجِدِ ذَاتَ لَيْلَةٍ. فَصَلَّى بِصَلاَتِهِ نَاسٌ. ثُمَّ صَلَّى مِنَ الْقَابِلَةِ. فَكَثُرَ النَّاسُ. ثُمَّ اجْتَمَعُوا مِنَ اللَّيْلَةِ الثَّالِثَةِ أَوِ الرَّابِعَةِ. فَلَمْ يَخْرُجْ إِلَيْهِمْ رَسُولُ اللّهِ . فَلَمَّا أَصْبَحَ قَالَ: "قَدْ رَأَيْتُ الَّذِي صَنَعْتُمْ. فَلَمْ يَمْنَعْنِي مِنَ الْخُرُوجِ إِلَيْكُمْ إِلاَّ أَنِّي خَشِيتُ أَنْ تُفْرَضَ عَلَيْكُمْ"، (ج: ٦ ،ص: ۳٥.) ، فتركُه - صلى الله عليه وسلم - صلاة التراويح في المسجد كان خشية أن تفرض عليهم، ولم يمنع هذا الترك عمر - رضي الله عنه - أن يجمع الصحابة في صلاة التراويح كل ليلة في رمضان، ولم ينكر عليه أحد منهم أنه مبتدع لمخالفته ماتركه النبي - صلى الله عليه وسلم -، بل دعا الإمام علي كرم الله وجهه لعمر - رضي الله عنه - بقوله: "نوَّر الله قبره كما نوّر مساجدنا بقراءة القرآن في رمضان".

صفحة ۱۰

ما تركه النبي - صلى الله عليه وسلم - مخافة الفتنة، ومنه عدم قتل المنافقين خشية أن يتحدث الناس أن محمدا يقتل أصحابه. وتركه إعادة بناء الكعبة على قواعدها الأولى لأن القوم حديثوعهد بالإسلام. وهذا أمر يوجب الاتباع من العلماء والمفتين والحكام والقادة في مراعاة فقه المآلات والموازنات حيث قد يُترك أمر صحيح دفعا لمفسدة كبيرة متوقعة أكبر من مصلحة الفعل.

رابعا:
السنة التقريرية: هذه السنة التقريرية نوعان: نوع ثبت علم النبي - صلى الله عليه وسلم - به وسكت عنه، ونوع لم يثبت أن النبي - صلى الله عليه وسلم - علمه مع حدوثه في زمنه، ولا يعد من السنة التقريرية إلا بإثبات علم النبي - صلى الله عليه وسلم -، ثم سكوته وعدم الإنكار. أما ما علمه النبي - صلى الله عليه وسلم - وسكت عنه فإنها سنة تقريرية لا تفيد الوجوب أو الاستحباب وإنما تفيد الإباحة. ومنه مارواه عبدالرحمن بن جبيرعن عمرو بن العاص - رضي الله عنه - قال: "احتلمت في ليلة باردة في غزوة ذات السلاسل فأشفقت أن أغتسل فأهلك ، فتيممت ، ثم صليت بأصحابي الصبح . فذكروا ذلك للنبي - صلى الله عليه وسلم - فقال : يا عمرو صليت بأصحابك وأنت جنب ؟ فأخبرته بالذي منعني من الاغتسال وقلت : إني سمعت الله يقول : { ولا تقتلوا أنفسكم إن الله كان بكم رحيما } فضحك رسول - صلى الله عليه وسلم - ولم يقل شيئا" (فتح الباري لابن حجر - ص ۱/٥٤۱ ).
فضحِكُ النبي - صلى الله عليه وسلم - إقرار يفيد حل التيمم إذا أشفق الإنسان على نفسه من برودة الماء، وإن كنت أرى الأمر قد يصل إلى الوجوب إذا تقين المسلم أن ضررا محققا سيصيبه إن اغتسل بالماء البارد.

1